السيرة النبوية دروس وعبر
(التلخيص من كتاب د. مصطفى السباعي)
مقدمة:
v
ميزة السيرة النبوية:
أولاً : إنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل، أو عظيم مصلح,
فقد وصلت إلينا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصح الطرق العلمية وأقواها ثبوتا.
ثانيًا : إن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها.
ثالثا :
إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، فلم تخرجه
عن إنسانيته.
رابعا :
إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان.
خامسًا : إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وحدها تعطينا الدليل الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوته.
v
مصادر السيرة النبوية:
1- القرآن الكريم
2- السنة النبوية الصحيحة
3- الشعر العربي المعاصر لعهد الرسالة
4- كتب السيرة
v تطور
التأليف في السيرة:
من أبرز شخص في عهد الصحابة معروف بعنايتهم في السيرة
النبوية:
-
أبان بن عثمان بن عفان (32 هـ - 105 هـ)
-
عروة بن الزبير بى العوام (23 هـ - 93 هـ)
من التابعين:
-
عبد الله بن أبي بكر الأنصاري( ت 135 هـ)
-
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري(50 هـ - 124 هـ)
-
عصم بن عمر بن قتادة الأنصاري(ت 129 هـ)
ثم أفردها
بالتصنيف: محمد بن إسحاق بن يسار(ت 152 هـ) في كتاب (( المغازي)) ثم ابن هشام(ت
213 هـ) في كتاب ((السيرة النبوية)) ثم ابن سعد(168 هـ - 230 هـ) في كتاب
((الطبقات)) ثم ابن جرير الطبري((234 هـ - 310 هـ) في كتاب ((التاريخ)) ثم تطور
بعد ذلك على بعض نواحيها مثل: ((دلائل النبوة)) للأصبهاني، ((الشمائل المحمدية))
للترمذي، ((زاد المعاد))لابن قيم الجوزية، ((الشفاء)) للقاضي عياض، ((المواهب
اللدنية)) للقسطلاني. من أشهر الكتب المؤلفة في عصرنا الحديث كتاب ((نور اليقين في
سيرة سيد المرسلين)) للشيخ محمد الخضري.
الفصل
الأول
في
حياته قبل البعثة
الدروس
والعظات:
1- أنه كلما كان الداعية إلى
الله، أو المصلح الاجتماعي في شرف من قومه، كان ذلك أدعى إلى استماع الناس له. « خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام
إذا فقهوا».
2- أن في تحمل الداعية آلام اليتم أو العيش،
وهو في صغره ما يجعله أكثر إحساسا بالمعاني الإنسانية النبيلة، وامتلاءً بالعواطف الرحيمة
نحو اليتامى أو الفقراء أو المعذبين.
3- كلما عاش الداعية في جو أقرب إلى الفطرة،
وأبعد عن الحياة المعقدة، كان ذلك أدعى إلى صفاء ذهنه، وقوة عقله وجسمه ونفسه، وسلامة
منطقه وتفكيره.
4- لا يتأهل لمركز الدعوة وقيادتها إلا
الذكي النبيه، فالأغبياء والمتوسطون في نجابتهم أبعد الناس عن جدارة القيادة الفكرية،
أو الإصلاحية، أو الروحية.
5- ينبغي للداعية أن يعتمد في معيشته على
جهده الشخصي، أو مورد شريف لا استجداء فيه، ولا ذلة ولا مهانة.
6-
إن استقامة الداعية في شبابه وحسن سيرته أدعى إلى نجاحه في دعوته إلى الله،
وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي قبل
قيامه بالدعوة.
7-
إن تجارب الداعية بالسفر، ومعاشرة الجماهير، والتعرف على عوائد الناس وأوضاعهم
ومشكلاتهم، لها أثر كبير في نجاح دعوته.
8- يجب على الداعية إلى الله أن تكون له
بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها
نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة، والحياة المضطربة من حوله.
الفصل
الثاني
في
السيرة منذ البعثة حتى الهجرة إلى الحبشة
الدروس
والعظات:
1- إن الله إذا أراد لعبد أن يوجهه لدعوة الخير والإصلاح، ألقى في قلبه
كره ما عليه مجتمعه من ضلال وفساد.
2- إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن
يستشرف للنبوة، ولا يحلم بها، وإنما كان يلهمه الله الخلوة للعبادة تطهيرا، وإعدادا
روحيا لتحمل أعباء الرسالة، ولو كان عليه الصلاة والسلام يستشرف للنبوة، لما فزع من
نزول الوحي عليه.
3- إن دعوة الإصلاح إذا كانت غريبة على
معتقدات الجمهور وعقليته، ينبغي ألا يجهر بها الداعية حتى يؤمن بها عدد يضحون في سبيلها
بالغالي والرخيص.
4- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
فاجأ العرب بما لم يكونوا يألفونه، وقد استنكروا دعوته أشد الاستنكار، وكان كل همهم
القضاء عليه وعلى أصحابه، فكان ذلك ردا تاريخيا على بعض دعاة القومية الذين زعموا أن
محمدا عليه الصلاة والسلام إنما كان يمثل في رسالته آمال العرب ومطامحهم حينذاك.
5- إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن
ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم
في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم.
6- إن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم
ذلك القول لعمه أبي طالب، وفي رفضه ما عرضته عليه قريش من مال وملك، دليلا على صدقه
في دعوى الرسالة، وحرصه على هداية الناس،وكذلك ينبغي أن يكون الداعية مصمما على الاستمرار
في دعوته مهما تألب عليه المبطلون.
7- إن على الداعية أن يجتمع بأنصاره على
فترات في كل نهار أو أسبوع، ليزيدهم إيمانا بدعوتهم، وليعلمهم طرقها وأساليبها وآدابها،
وإذا خشي على نفسه وجماعته من الاجتماع بهم علنا وجب عليه أن يكون اجتماعه بهم سرا
لئلا يُجمِع المبطلون أمرهم فيقضوا عليهم جميعا، أو يزدادوا في تعذيبهم واضطهادهم.
8- إن على الداعية أن يهتم بأقربائه فيبلغهم دعوة الإصلاح، فإذا أعرضوا،
كان له عذر أمام الله والناس عما هم عليه من فساد وضلال.
9- إن على الداعية إذا وجد جماعته في خطر
على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة، أن يهيئ لهم مكانا يأمنون فيه من عدوان المبطلين،
ولا ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية
10- إن في أمر الرسول أصحابه أولا وثانيا
بالهجرة إلى الحبشة، ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين ولو اختلفت دياناتهم
هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين
11- إن المبطلين لا يستسلمون أمام أهل الحق
بسهولة ويسر، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق، ابتكروا
وسائل أخرى وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة.
الفصل
الثالث
في
السيرة بعد هجرة الحبشة إلى الهجرة للمدينة
الدروس
والعظات:
1- قد يحمي الداعية أحدُ أقربائه ممن ليسوا على دعوته، وفي ذلك فائدة
للدعوة حين تكون مستضعفة، إذ يمنع الأشرار من العدوان على حياته أو مسه بأذى، فعصبية
القبيلة والعائلة قد يستفيد منها الداعية في حمايته وحماية دعوته إذا لم يسايرها على
ما هي عليه منكرات.
2- الزوجة الصالحة المؤمنة بدعوة الحق تذلل
كثيرا من الصعاب لزوجها الداعية إذا شاركته في همومه وآلامه، وبذلك تخفف عنه عبء هذه
الهموم، وتبث في نفسه الاستمرار والثبات
3- والحزن على فقد القريب الحامي لدعوة
الحق غير المؤمن بها، وعلى فقد الزوجة المؤمنة المخلصة، حزن تقتضيه طبيعة الإخلاص للدعوة،
والوفاء للزوجة المثالية في تضحيتها وتأييدها
4- في توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الطائف بعد أن أعرضت عنه مكة، دليل على التصميم الجازم في نفس الرسول على الاستمرار
في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبحث عن ميدان جديد للدعوة بعد أن قامت
الحواجز دونها في ميدانها الأول
5- أن في إغراء ثقيف صبيانها وسفهاءها بالرسول، دليلا على أن طبيعة
الشر واحدة أينما كانت، وهي الاعتماد على السفهاء في إيذاء دعاة الخير
6- في معجزة الإسراء والمعراج أسرار كثيرة نشير إلى ثلاثة منها فحسب:
أولاً: ففيها ربط قضية المسجد الأقصى وما
حوله - فلسطين- بقضية العالم الإسلامي إذ أصبحت مكة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه
وسلم مركز تجمع العالم الإسلامي ووحدة أهدافه، وأن الدفاع عن فلسطين دفاع عن الإسلام
نفسه، يجب أن يقوم به كل مسلم في شتى أنحاء الأرض، والتفريط في الدفاع عنها وتحريرها،
تفريط في جنب الإسلام، وجناية يعاقب الله عليها كل مؤمن بالله ورسوله.
وثانيًا: فيها رمز إلى سمو المسلم، ووجوب
أن يرتفع فوق أهواء الدنيا وشهواتها، وأن ينفرد عن غيره من سائر البشر بعلو المكانة،
وسمو الهدف، والتحليق في أجواء المثل العليا دائما وأبدا.
وثالثا: فيها إشارة إلى إمكان ارتياد الفضاء
والخروج عن نطاق الجاذبية الأرضية، فلقد كان رسولنا في حادثة الإسراء والمعراج أول
رائد للفضاء في تاريخ العالم كله
6- في فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج إشارة إلى الحكمة التي من أجلها
شرعت الصلاة، فكأن الله يقول لعباده المؤمنين: إذا كان معراج رسولكم بجسمه وروحه إلى
السماء معجزة، فليكن لكم في كل يوم خمس مرات معراج تعرج فيه أرواحكم وقلوبكم إلي، ليكن
لكم عروج روحي تحققون به الترفع عن أهوائكم وشهواتكم
7- وفي عرض الرسول نفسه على القبائل في
موسم الحج، دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يقتصر في دعوة الناس إلى الخير ضمن مجالسه
وفي بيئته فحسب، بل يجب أن يذهب إلى كل مكان يجتمع فيه الناس أو يمكن أن يجتمعوا فيه،
وأنه لا ينبغي له أن ييأس من إعراضهم عنه مرة بعد أخرى.
الفصل
الرابع
منذ
الهجرة حتى استقرار النبي في المدينة
الدروس
والعظات:
1- إن المؤمن إذا كان واثقا من قوته لا يستخفي في عمله، بل يجاهر فيه،
ولا يبالي بأعداء دعوته ما دام واثقا من التغلب عليهم، كما فعل عمر رضي الله عنه
2- حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق
والإصلاح، وحين يفلت المؤمنون من أيديهم ويصبحون في منجى من عدوانهم، يلجؤون آخر الأمر
إلى قتل الداعية المصلح، ظنا منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه
3- إن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح،
يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما
فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم تضحية
بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
4- وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله، دليل على أن أعداء الإصلاح
يوقنون في قرارة نفوسهم باستقامة الداعية وأمانته ونزاهته، وأنه خير منهم سيرة، وأنقى
سريرة
5- إن تفكير قائد الدعوة، أو رئيس الدولة،
أو زعيم حركة الإصلاح في النجاة من تآمر المتربصين والمغتالين، وعمله لنجاح خطة النجاة
ليستأنف حركته أشد قوة ومراسا في ميدان آخر، لا يعتبر جبنا ولا فرارا من الموت، ولا
ضنا بالتضحية بالنفس والروح.
6- في موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات،
فهم عماد كل دعوة إصلاحية، وباندفاعهم للتضحية الفداء، تتقدم الدعوات سريعا نحو النصر
والغلبة.
7- وفي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما
أثناء هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء،
فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال
بنشره والدعوة إليه بكل صعوبة،
8- وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول
الله وصاحبه في «غار ثور» وهم عنده، وفيما تحكيه لنا الروايات من نسيج العنكبوت وتفريخ
الطير على فم الغار، مثل تخشع له القلوب من أمثلة العناية الإلهية برسله ودعاته وأحبابه،
فما كان الله في رحمته لعباده ليسمح أن يقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين
فيقضوا عليه وعلى دعوته وهو الذي أرسله رحمة للعالمين، وكذلك يعود الله عباده الدعاة
المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة، وينقذهم من المآزق الحرجة، ويعمي عنهم - في كثير
من الأحيان- أبصار المتربصين لهم بالشر والغدر
9- وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن
يراهما المشركون مثل لما يجب أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين
يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته
10- وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم
لأبي بكر تطمينا له على قلقه « يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» مثل من أمثلة
الصدق في الثقة بالله والاطمئنان إلى نصره، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح
على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة
11- ويبدو لنا من موقف سراقة حين أدرك الرسول
صلى الله عليه وسلم وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم
12- وفي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم
لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى، فالإنسان الذي يبدو هاربا من وجه قومه لا يؤمل في فتح
الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى، إلا أن يكون نبيا مرسلا، ولقد تحقق وعد الرسول صلى
الله عليه وسلم له، وطالب كسرى عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول صلى الله عليه وسلم
له حين رأى سواري كسرى في الغنائم
13- كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من
أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالما فرحة أخرجت
النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة
موقف المشارك في الفرحة ظاهرا، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطنا.
14- من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا
أنه صلى الله عليه وسلم ما أقام بمكان إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون
فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها أربعة أياموهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام،
وعبادات الإسلام كلها تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين،
وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين، ووحدة كلمتهم،
وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى
15- في مؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار
أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية البناءة
16- وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة
بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترَدُّ
على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين
وغيرهم هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل
لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام.
الفصل
الخامس
في
معارك الرسول الحربية
الدروس
والعظات:
1- كانت أولى المعارك بدرا كان من بواعثه
الاقتصاص من قريش لأخذ أموالها لقاء ما أخذت من أموال المؤمنين المهاجرين
2- إن النصر في المعارك لا يكون بكثرة العدد،
ووفرة السلاح، وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش
3- إن شدة عزائم الجيش واندفاعه في خوض
المعركة، وفرحه بلقاء عدوه مما يزيد القائد إقداما في تنفيذ خطته، وثقته بالنجاح والنصر،
كما حدث في معركة بدر.
4- إن على القائد ألا يكره جيشه على القتال،
إذا كانوا غير راغبين ومتحمسين حتى يتأكد من رضاهم وتحسسهم، كما فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم من استشارة أصحابه يوم بدر قبل خوض المعركة.
5- إن احتياط الجنود لحياة قائدهم أمر تحتمه
الرغبة في نجاح المعركة والدعوة، وعلى القائد ان يقبل ذلك، لأن في حياته حياة الدعوة،
وفي فواتها خسارة المعركة.
6- إن الله تبارك وتعالى يحيط عباده المؤمنين
الصادقين في معاركهم بجيش من عنده، كما أنزل الملائكة يوم بدر، وأرسل الريح يوم الأحزاب.
7- إن من طبيعة الداعية الصادق أن يحرص
على هداية أعدائه، وأن يفسح لهم المجال لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية، ومن هنا نفهم
ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فداء الأسرى يوم بدر، فقد كان يرجو أن يهديهم
الله وأن تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو إليه
8- إن مخالفة أمر القائد الحازم البصير
يؤدي إلى خسارة المعركة، كما حصل في وقعة أحد
9- والطمع المادي في المغانم وغيرها يؤدي
إلى الفشل فالهزيمة، كما حصل في معركة أحد حينما ترك الرماة مواقفهم طمعا في إحراز
الغنائم، وكما حصل في معركة حنين حين انتصر المسلمون في أولها، فطمع بعضهم في الغنائم،
وتركوا تتبع العدو، مما أدى إلى عودة العدو وهجومه على المسلمين، فانهزموا
10- وفي ثبات نسيبة أم عمارة، ووقوفها وزوجها
وأولادها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكشف المسلمون يوم أحد. دليل من الأدلة
المتعددة على إسهام المرأة المسلمة بقسط كبير من الكفاح في سبيل دعوة الإسلام، وهو
دليل على حاجتنا اليوم إلى أن تحمل المرأة المسلمة عبء الدعوة إلى الله من جديد، لتدعو
إلى الله في أوساط الفتيات والزوجات والأمهات، ولتنشئ في أطفالها حب الله ورسوله، والاستمساك
بالإسلام وتعاليمه، والعمل لخير المجتمع وصلاحه.
11- وفي إصابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالجراح يوم أحد عزاءٌ للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو
اضطهاد لحرياتهم بالسجن والاعتقال، أو قضاءٍ على حياتهم بالإعدام والاغتيال
12- وفيما فعله المشركون يوم أحد من التمثيل
بقتلى المسلمين، وبخاصة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل واضح على خلوِّ أعداء
الإسلام من كل إنسانية وضمير، فالتمثيل بالقتيل لا يؤلم القتيل نفسه، إذ الشاة المذبوحة
لا تتألم من السلخ، ولكنه دليل على الحقد الأسود الذي يملأ نفوسهم، فيتجلى في تلك الأعمال
الوحشية التي يتألم منها كل ذي وجدان حي، وضمير إنساني.
13- وفي قبول الرسول صلى الله عليه وسلم
إشارة الحباب بن المنذر بالتحول من منزله الذي اختاره للمعركة يوم بدر، وكذلك في قبول
استشارته يوم خيبر، ما يحطم غرور الديكتاتوريين المتسلطين على الشعوب بغير إرادة منها
ولا رضى، هؤلاء الذين يزعمون لأنفسهم من الفضل في عقولهم وبعد النظر في تفكيرهم ما
يحملهم على احتقار إرادة الشعب، والتعالي عن استشارة عقلائه وحكمائه ومفكريه، إذ كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علم الله منه أكمل الصفات ما أهَّلَه لحمل أعباء
آخر رسالاته وأكملها يقبل رأي أصحابه الخبيرين في الشؤون العسكرية، وفي طبيعة الأراضي
التي تتطلبها طبيعة المعركة دون أن يقول لهم: إني رسول الله، وحسبي أن آمر بكذا، وأنهى
عن كذا، إذ قبل منهم مشورتهم
14- وفي تقدمه الصفوف في كل معركة وخوضه
غمارها معهم إلا فيما يشير به أصحابه، دليل على أن مكان القيادة لا يحتله إلا الشجاع
المتثبت، وأن الجبناء خائري القوى لا يصلحون لرئاسة الشعوب، ولا لقيادة الجيوش، ولا
لزعامة حركات الإصلاح ودعوات الخير
15- على الجنود وأنصار الدعوة ألاَّ يخالفوا
القائد الحازم البصير في أمر يعزم عليه، فمثل هذا القائد وهو يحمل المسؤولية الكبرى،
جدير بالثقة بعد أن يبادلوه الرأي، ويطلعوه على ما يرون، فإن عزم بعد ذلك على أمر،
كان عليهم أن يطيعوه، كما حصل بالرسول يوم صلح الحديبية
16- ومما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم
من نُعيم بن مسعود، أن يخذِّل بين الأحزاب ما استطاع في "غزوة الأحزاب" دليل
على أن الخديعة في حرب الأعداء مشروعة إذا كانت تؤدي إلى النصر، وأن كل طريق يؤدي إلى
النصر وإلى الإقلال من سفك الدماء مقبول في نظر الإسلام، ما عدا الغدر والخيانة
17- وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة
سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الإسلام لا يضيق
ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع فلا شك أن
حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة،
دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم، واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من
أمور حسنة
18- ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه
وسلم للجيش الإسلامي في "غزوة مؤتة" تلمس طابع الرحمة الإنسانية في قتال
الإسلام، فهو لا يقتل من لا يقاتل، ولا يخرب ما يجده في طريقه إلا لضرورة ماسة، وقد
التزم أصحابه من بعده والمسلمون في مختلف العصور بعد ذلك هذه الوصايا
19- إن الجيش إذا كان غير متساوٍ في الحماس
والإيمان والإخلاص، بل كان فيه المتخاذلون والمرتزقة والمتهاونون، لا يمكنه أن يضمن
النصر على أعدائه، كما حصل في "غزوة حنين"، وكذلك شأن الدعوات لا يمكنها
أن تعتمد على كثرة المصفقين لها، بل على عدد المؤمنين بها المضحين في سبيلها.
20- ودرس آخر نستفيده من سيرة الرسول في
حروبه ومعاركه، هو موقفه من اليهود، وموقف اليهود منه ومن دعوته، فلقد حرص الرسول أول
مقامه في المدينة أن يقيم بينه وبينهم علائق سلم، وأن يؤمِّنهم على دينهم وأموالهم،
وكتب لهم بذلك كتاباً، ولكنهم قوم غدر، فما لبثوا غير قليل حتى تآمروا على قتله، مما
كان سبباً في "غزوة بني النضير" ثم نقضوا عهده في أشد المواقف حرجاً
"يوم الأحزاب" مما كان سبباً في "غزوة بني قريظة"، ثم تجمَّعوا
من كل جانب يهيِّئون السلاح ويبيِّتون الدسائس، ويتجمَّعون ليقضوا في غدر وخسَّة على
المدينة والمؤمنين فيها، مما كان سبباً في "غزوة خيبر".
21- وفي غزوة مؤتة كان أول لقاء بين المسلمين
والروم، ولولا أن العرب الغساسنة قتلوا رسولَ رسولِ الله إلى أمير بصرى، لكان من الممكن
أن لا يقع الصدام، ولكن قتل رسوله إلى أمير بصرى يعتبر عملاً عدائياً في جميع الشرائع،
ويدل على عدم حسن الجوار، وعلى تثبيت الشر من هؤلاء عمال الروم وصنائعهم، ولذلك رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسال جيش مؤتة ليكون فيه إنذار لهم ولسادتهم الروم بقوة
الدولة الجديدة واستعدادها للدفاع عن نفسها حتى لا يفكروا بالعدوان عليها.
22- وفي غزوة تبوك أو العسرة آيات بينات
على ما يفعله الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال واندفاع أيديهم
في بذل المال ومن استعذابهم الحر والعناء والتعب الشديد في سبيل الله ومرضاته، ولذلك
لما تخلَّف ثلاثة من المؤمنين الصادقين في إيمانهم عن هذه الغزوة من غير عذر، أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، فامتنع أزواجهم وآباؤهم عن مكالمتهم فضلاً عن جمهور
المسلمين، مما اضطر بعضهم إلى ربط نفسه بعمد المسجد، وآخر إلى احتباس نفسه في البيت،
حتى تاب الله عليهم بعد أن أخذ المسلمون درساً بليغاً فيمن يتخلف عن أداء الواجب لغير
عذر، إلا أن يؤثر الراحة على التعب، والظل الظليل على حر الشمس وشدتها.
23- أما فتح مكة، ففيها من الدروس والعظات
ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القلائل، ففيها نجد طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية
الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلاً
24- وفيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم
مع أهل مكة حكمة أخرى، فقد علم الله أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى العالم، فأبقى
على حياة أهل مكة وهم زعماء العرب ليدخلوا في دين الله، ولينطلقوا بعد ذلك إلى حمل
رسالة الهدى والنور إلى الشعوب
25- وآخر ما نذكره من دروسها ودروس معاركه
الحربية صلى الله عليه وسلم، هي العبرة البالغة بما انتهت إليه دعوة الله من نصر في
أمد لا يتصوره العقل، وهذا من أكبر الأدلة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعلى أن الإسلام دعوة الله التي تكفل بنصرها ونصر دعاتها والمؤمنين بها والحاملين للوائها.
الفصل
السادس
أهم
الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة
إلى
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
v
غزوة حنين:
1- ما كان من غرور
مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد ابن الصمة حرصاً منه على الرئاسة، واغتراراً
منه بصواب فكره، وتكبُّراً عن أن يقول قومه – وهو الشاب القوي المطاع -: قد استمع إلى
نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنَّب قومه الخسارة
الكبيرة في أموالهم، والعار الشنيع في سبي نسائهم، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان
موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً
2-
ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها
من السلاح، ففيه عدا وجوب الاستعداد الكامل لقتال الأعداء، جواز شراء السلاح من الكافر،
أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى
المسلمين وإيقاع الضرر بهم، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة، وكان صفوان
من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل
على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك: أغَصباً يا محمد؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه
وسلم: بل عاريةً مضمونةً حتى نُؤديها إليك.
3-
حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في هذه المعركة، كان معه اثنا عشر ألفاً:
عشرة آلاف ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة، وهم المهاجرون والأنصار، والقبائل
التي كانت تجاور المدينة، أو في طريق المدينة، وألفان ممن أسلموا بعد الفتح، وكان أكثر
هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الإسلام في قلوبهم بعد، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن انهارت
كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين
باعوا الله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه، وفيه كان الضعاف في دينهم، والموتورون
الذين أسلموا على مضضٍ وهم ينطوون على الحقد على الإسلام والتألم من انتصاره، فلم يكن
الجيش كله في مستوى واحد من قوة الروح المعنوية، والإيمان بالأهداف التي يحارب من أجلها،
وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبه، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب،
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه: لن نغلب اليوم من قلة أي: إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب إلا
من أمور معنوية تتعلق بنفوس أفراده، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم واخلاصهم وتضحياتهم،
وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة، وهي أن النصر لا يكون
بكثرة العدد، ولا بجودة السلاح، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفوس المحاربين، ويدفعهم
إلى التضحية والفداء، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع، فقال تعالى: {كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
4-
وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة: يا
رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم:
قلتم – والذي نفس محمد بيده – كما قال قوم موسى لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة،
قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.
في
هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم
السابقة لها، وفيه تحذير من ذلك، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها.
5-
في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الأمر، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ظن شيبة بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه
قد قتل في معركة أحد، قال شيبة: فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله
أقبل شيء تغشى فؤادي، فلم أطق ذلك، وعلمت أنه ممنوع مني.
ولقد
تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة، تكررت مع أبي جهل، ومع غيره في مكة، وفي المدينة،
وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على
قتله، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة، وعلى أن الله
قضى بحفظ نبيه من كل كيد، وببقائه حياً، حتى يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، وينقذ جزيرة
العرب من جاهليتها.
6-
فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم، مما أدى إلى وقوع الخلل في صفوف المسلمين
واضطرابهم وتفرُّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت معه إلا القليل، ثم
أخذ رسول الله ينادي: أيها الناس! هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله،
فلم يسمع الناس صوته، فطلب من العباس – وكان جهوري الصوت – أن ينادي في الناس: يا معشر
الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! فأجابوا: لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا
يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره ويخلي
سبيله، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه
منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصرُ.
في
هذا الموقف عدة من العبر والدروس يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندها طويلا، فإن
انهزام الدعوة في معركة قد يكون ناشئاً من وهن في عقيدة بعض أبنائها، وعدم إخلاصهم
للحق، وعدم استعدادهم للتفاني في سبيله، كما أن ثبات قائد الدعوة في الأزمات، وجرأته،
وثقته بالله ونصره، له أثر كبير في تحويل الهزيمة إلى نصر، وفي تقوية قلوب الضعاف والمترددين
ممن معه، وللثابتين الصادقين من جنود الحق والتفافهم حول قائدهم الجريء المخلص، أثر
كبير أيضاً في تحويل الهزيمة إلى نصر
7-
وفي موقف أم سليم بنت ملحان مفخرة من مفاخر المرأة المسلمة في صدر الإسلام، فقد كانت
في المعركة مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها وهي حامل، ومعها جمل لأبي طلحة
وقد خشيت أن يفلت منها، فأدخلت يدها في خزامته (وهي حلقة من شعر تجعل في أنف البعير)
مع الخطام، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي
أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقاتل الذين يقاتلونك، فإنهم
لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم! وكان معها
خنجر، فسألها زوجها أبو طلحة عن سر وجوده معها! فقالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد
من المشركين بعجته به! فأعجب بها أبو طلحة، ولفت نظر الرسول إلى ما تقول.
هكذا
كانت المرأة المسلمة، وهكذا ينبغي أن تكون: جريئة تسهم في معارك الدفاع بحضورها بنفسها،
حتى إذا احتيج إليها أو دنا منها الأعداء، ردت عدوانه بنفسها كيلا تؤخذ أسيرة مغلوبة،
وللمرأة المسلمة في تاريخ الإسلام حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلاء والتضحية
والشجاعة، مما يصفع أولئك المتعصبين من المستشرقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا
لقومهم أن الإسلام يهين المرأة ويحتقرها
8-
وفي هذه المعركة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد،
والناس متقصفون (مزدحمون) عليها، فقال: ما هذا؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً، أو امرأة، أو عسيفاً (أجيراً).
لا
شك في أن النهي عن قتل الضعفاء، أو الذين لم يشاركوا في القتال، كالرهبان، والنساء،
والشيوخ، والأطفال، أو الذين أجبروا على القتال، كالفلاحين، والأجراء (العمال) شيء
تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب في العالم، فما عهد قبل الإسلام ولا بعده حتى اليوم
مثل هذا التشريع الفريد المليء بالرحمة والإنسانية
9-
بعد أن تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن إلى ثقيف بالطائف،
وحاصرها أياماً فلم تفتح عليه، عاد إلى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين، وكانت
ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يدرى عدته، وقد أعطى قسماً كبيراً
منها لأشراف من العرب يتألفهم على الإسلام، وأعطى كثيراً منها لقريش، ولم يعط منها
للأنصار شيئاً، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم، حتى قال بعضهم:
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة
ودانت قريش بالاسلام، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وخطب فيهم فقال بعد
أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم، وجدة (أي عتب) وجدتموها
عليّ في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلاّلاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف
الله بين قلوبكم؟ بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل.
ثم
قال :ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله
المن والفضل، قال صلى الله عليه وسلم: أما والله، لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيناك مكذباً
فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار
في أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، وتركتكم إلى
إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله
إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس
شعباً (هو الطريق بين جبلين) وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار،
وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا (بللوا) لحاهم، وقالوا:
رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
وها
هنا مسائل يمكن التعليق عليها:
أولاً: قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب
في الإسلام، وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلان
الحرب في الإسلام، ومنشط فعال للجنود المسلمين يدفعهم إلى التضحية والفداء، ولذلك يتهافتون
عليها بعد الحرب، كما في هذه المعركة، ولا ريب في أن كل منصف يرفض هذا الادعاء، فبواعث
الحرب في الإسلام معنوية تهدف إلى نشر الحق، ودفع الأذى والعدوان، وهذا ما صرحت به
آيات وأحاديث كثيرة صريحة، ومن الغرابة بمكان أن يضحي الإنسان بحياته، ويعرض مستقبل
أسرته للضياع، طمعاً في مغنم مادي مهما كبر
ثانياً: أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً،
يدل على حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بطبائع قومه، وبعد نظرة في تصريف
الأمور، فهؤلاء الذين ظلوا يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتنعون عن قبول
دعوته، حتى فتح مكة، والذين أظهر بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة، لا بد
من تأليف قلوبهم على الإسلام، وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية التي كانوا
يحاربونه من أجلها، إذ كانوا – في الحقيقة – إنما يحاربونه وهم أشراف القوم إبقاء على
زعامتهم، وحفاظاً على مصالحهم المادية
ثالثاً: وفي جمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم للأنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم، دليل على حسن سياسته صلى الله عليه
وسلم، ودماثة خلقه، فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم، اهتم باسترضائهم وجمعهم
لذلك
رابعاً: إن في موقف الأنصار بعد أن سمعوا
كلامه، أروع الأمثلة في صدق الإيمان، ورقة القلوب، وتذكر فضل الله في الهداية والتقوى،
فقد ذكروا أن الفضل لله ولرسوله فيما قاموا به من النصرة والتأييد والجهاد، وأنهم لولا
الله لما اهتدوا، ولولا رسوله لما استضاءت قلوبهم وبصائرهم، ولولا الإسلام لما جمع
الله شملهم بعد الشتات
v غزوة
تبوك وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس هو ما نوجز الكلام عنه:
أولاً: كان سبب هذه الغزوة أن الروم قد
جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه سنة، وانضمت اليه من القبائل العربية،
لخم، وجذام، وغسان، وعاملة، ثم قدموا طلائعهم إلى البلقاء – كورة من أعمال دمشق بين
الشام ووادي القرى، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب الناس للخروج إلى
تبوك، ودعاهم إلى التأهب والاستعداد، ودعا الأغنياء إلى البذل والإنفاق.
وهذا يفسر لنا طبيعة الحرب في الإسلام،
فهي ليست عدوانية، ولا استفزازية، ولكنها للدفاع عن الدين والبلاد، وردع المعتدين،
ومنعهم عن الأذى والفساد
ثانياً: لقد كانت دعوة الرسول صلى الله
عليه وسلم للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار، فأما المؤمنون الصادقون، فقد سارعوا
إلى تلبيتهم للرسول غير عابئين بمشقة ولا حرمان، وأما المنافقون، فقد تخلفوا، وأخذوا
يعتذرون بشتى الأعذار، وهكذا يتبين المخلصون من المنافقين في أيام الشدائد، وينكشف
أمر الأدعياء في أيام المحن
ثالثاً: إن في مسارعة الموسرين من الصحابة
إلى البذل والإنفاق، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم، دليلاً على ما يفعله الإيمان
في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها، مما تحتاج
إليه كل أمة، وكل دعوة، لضمان النصر على أعدائها، وتأمين الموارد اللازمة لها
رابعاً: وفي قصة الذين جاؤوا الى رسول الله
يطلبون أن يأخذهم معه إلى الجهاد، فردهم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه. فولوا وأعينهم
تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. في
هذه القصة التي حكاها الله في كتابه أروع الأمثلة على صنع الإيمان للمعجزات، فطبيعة
الإنسان أن يفرح لنجاته من الأخطار، وابتعاده عن الحروب، ولكن هؤلاء المؤمنين الصادقين
بكوا من أجل ذلك، إذ اعتبروا أنفسهم قد فاتهم حظ كبير من ثواب الله والتعرض للشهادة
في سبيله، فأي مبدأ يعمل في النفوس كما فعل الإيمان في نفوس هؤلاء؟ وأي خسارة تلحق
بالأمة حين تخلو من أمثال هؤلاء؟!
خامساً: وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن
الجهاد إيثاراً للراحة على التعب، والظل على الحر، والإقامة على السفر، مع أنهم مؤمنون
صادقون، درس اجتماعي من أعظم الدروس، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل، فعلموا
أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول الله والمؤمنون إثماً كبيراً، ومع هذا فلم يعفهم ذلك
من العقوبة، وكانت عقوبتهم قاسية رادعة، فقد عزلوا عن المجتمع عزلاً تاماً، ونهي الناس
– حتى زوجاتهم – عن كلامهم والتحدث إليهم، ولما علم الله منهم صدق التوبة، وبلغ منهم
الندم والألم والحسرة مداه، تاب الله عليهم، فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم لا تقدر،
حتى انسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكراً لله على نعمة الرضى والغفران.
إن مثل هذه الدروس تمنع المؤمن الصادق في
إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضى لنفسه بالراحة والناس يتعبون، والنعيم
والناس يبتئسون، وتلك هي طبيعة الإيمان: أن تشعر دائماً وأبداً أنك فرد من جماعة، وجزء
من كل، وأن ما يصيب الجماعة يصيبك، وما يفيدها يفيدك، وأن النعيم لا معنى له مع شقاء
الأمة وبؤسها، والراحة لا لذة لها مع تعب الناس وعنائهم، وأن التخلف عن الواجب نقص
في الإيمان، وخلل في الدين، وإثم لا بد فيه من التوبة والإنابة.
وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وهنا
درسان بالغان:
أولهما: أن الصحابة دهشوا لموت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، حتى لكأن الموت لا يمكن أن يأتيه، مع أن الموت نهاية كل حي، وما
ذلك إلا لحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً امتزج بدمائهم وأعصابهم، والصدمة
بفقد الأحباب تكون على قدر الحب
ثانيهما: أن موقف أبي بكر دل على أنه يتمتع
برباطة جأش وقوة أعصاب عند النكبات لا يتمتع بها صحابي آخر.
0 komentar:
Speak up your mind
Tell us what you're thinking... !